المستوي:
الحنين إلى الوطن في شعر عن الوطن للعلامة البيحاني
لا شيء أشق على النفس من مرارة فراق الأهل والأوطان، ولا عذاب في الدنيا يساوي عذاب الشوق والحنين إلى الوطن، واليمنيون من أكثر شعوب الأرض حبًا لوطنهم وتعلقًا به عندما يغادرونه مُكرهين، ومن بينهم الشيخ العلامة محمد بن سالم البيحاني، رحمه الله، الذي أُجبر على مغادرة مدينته (عدن) ومسجد العسقلاني والمعهد العلمي، فكتب قصائد شعرية رشيقة وعذبة المعنى، تجبر كل من قرأها أن يذرف الدموع، لصدق ما ورد فيها من التعبير عن المشاعر الرقيقة ولوعة الحنين والصبابة والشوق إلى الأهل والأحباب.
والشوق والحنين إلى الأهل والأوطان من القضايا التي زخر بها الشعر العربي، إلا أنها في شعر العلامة البيحاني لها وقع مختلف، لما فيها من خروج على المألوف بالنسبة لشيخ وعالم وقور، وهو يُعبِّر عن شوقه لكل ما له من خصوصية يمنية، بما في ذلك مجالس القات وأغاني الآنسي وما يرد فيها من كلام غزلي بذات الخصر النحيل والعيون الناعسة، كما سنأتي على ذكر ذلك. شعر عن الوطن العربي
لقد عبّر البيحاني في مطلع إحدى قصائده عن حنينه الجارف للوطن وبلد المعالي، وشبّه هذا الحنين بالنار التي لن تطفأ إلا بالعودة إلى مسقط الرأس، وبيّن أنه يسأل كل زواره عن موطنه، وأنه مهما كانت الإجابات كثيرة وغزيرة، فإنها لن تطفي نار الشوق للوطن، حيث يقول:
أحن إليك يا بلد المعالي
وما لي لا أحن وألف ما لي
أحن إليك والأنفاس حرّا
ونار الحب تطفي بالوصال
وأسأل عنك زُوّاري جميعًا
وما يشفي الجواب من السؤالِ
ثم ينتقل للحديث عن أهله ومدينته (عدن)، موضحًا أنه لن ينساها ولو سكن الثّريا، ويتحدث عن إخوانه في الجنوب والشمال، وعن عطائهم وكرمهم الذي يشبه موج البحر الزاخر باللآلئ، ويقصد بذلك عندما هبّ اليمنيون في الشمال والجنوب وجمعوا التبرعات عندما وسّع مسجد العسقلاني، ثم بنى المعهد الإسلامي، والبعض يعدونه وكأنه والدهم، فقال:
وفي عدن العزيزة كل شيءٍ
يعزُّ عليَّ من أهلي ومالي
ولو إني سكنت على الثريا
لقلت إليك يا عدن مآلي
ولي في الأرض إخوان أعزاء
كرام في الجنوب وفي الشمالِ
ومنهم من يرى أني أبوه
ويحسب نفسه أحد العيالِ
ويعطيني من الدنيا كثيراً
كموج البحر يزخر باللآلِ
كما يتذكر البيحاني، رحمه الله، أسلوب حياته في عدن، حيث كان يعمل إمامًا وخطيبًا في مسجده (العسقلاني)، والدروس التي كان يلقيها لطلابه، بقوله:
وكنت أعيش في عدنٍ إمامًا
لأعظم مسجد وبه اشتغالي
وكنت خطيبه والناس حولي
قد اجتمعوا ليستمعوا مقالي
ويصف البيحاني غياب حلقات الدروس في مسجد العسقلاني بأنها أمرٌ كالمحال، وأنه لن ينساها حتى بعد أن يموت ويُوَسّد تحت الثرى، وقد مات ودفن خارج عدن، رحمه الله، ولا شك أنه سيفي بوعده، وسيتذكر تلك الحلقات وهو في قبره، وعبّر عن ذلك بقوله:
فيا حلقات درس "العسقلاني"
غيابي عنك أمرٌ كالمحال
ولن أنساك لا والله حتى
أوسد في الثرى بعد انتقالي
- شعر عن الوطن العربي
ثم يبدي حزنه العميق على المعهد الإسلامي الذي تعب كثيرًا في بنائه، حيث طاف اليمن شمالًا وجنوبًا، كما طاف بعض دول الخليج، ليجمع التبرعات من أجل بناء المعهد، ويُعلّم فيه الشريعة الإسلامية، لكن الماركسيين أمموه، وحولوه إلى مركز لتعليم الإلحاد، وهو ما أحزن البيحاني، فقال معبرًا عن ذلك:
وهل يا معهد الإسلام تبقى
بأيدي العابثين بكل غالي؟
وفيك عصرت أفكاري ولمَّا
بنيتك بعد أعوامٍ طوالِ
أتاك العابثون بكل جهد
وصرت إلى الذي بك لا يبالي
انتقل بعد ذلك البيحاني ليشكو حزنه لأحد أصدقائه، معبرًا عن وجعه بدموعه الغزيرة، ومؤكدًا بأنه إذا جفت الدموع من عينيه، فإن الدم سيقوم بالمهمة، وستسكب عيناه دمًا بدلًا من الدموع التي فنيت، حيث يقول:
إلى "باذيب" أرسلها دموعًا
ومن تلك الدموع إلى كمالِ
وإن أفنيت من عينيَّ دمعي
فإن دمي سيكتب لي نضالي
- شعر عن الوطن العربي
وفي قصيدةٍ أخرى، عبّر البيحاني عن شوقه لكل ذكرياته الجميلة في عدن، وبدأها بتساؤل مفاده: هل يجوز للشيخ الوقور المشتاق للأهل والوطن أن يبث آلام جراحه كالصب والعاشق الولهان؟ ثم يجيب على نفسه ويقول: ليس على الصب إذا ما قال آح أي لوم، والصب والصبابة تعني العشق ورقة الشوق، وهو ما عبر عنه في مطلع القصيدة بقوله:
آح يا قلب المعنى ثم آح
لست أدري لست أدري هل يُباح
أم حرام في الأقاويل الصحاح
أن يبث المرء آلام الجراح
نبئوني يا صماصيم الكفاح
ما على الصب إذا ما قال آح
ويتذكر البيحاني ليالي الوصل في عدن مع الحبيبة، والأنس في الزمن الجميل، وعبر عن حزنه بسبب الفراق والأنس الذي راح وربما لن يعود، فيقول:
يا ليالي الوصل في هذا الوطن
لا أراك الله فصلا من عدن
يا بلاد الأنس في ماضي الزمن
ما الذي فرقنا حتى يُظن
أن وقت الأنس قد ولى وراح
ما على الصب إذا ما قال آح
كما عبّر عن حنينه لمجالس القات مع الأصدقاء في عدن، والتي يتذكرها وكأنها كانت قبل وقت قليل، وما يرد فيها من نقاش حول أجمل وأروع قصص الحب في التراث العربي، وخاصة قصة قيس بن الملوح مع ليلى العامرية، وقصة جميل بثينة، حيث قال:
جلسة في عدن قبل قليل
ما لها والله في الدنيا مثيل
يتبارى الناس أصحاب المقيل
ما الذي صار لقيس وجميل
ومع القات وضرب بالقداح
ما على الصب إذا ما قال آح
ثم ينتقل للحديث عن أغاني الفنان الآنسي، والتي كان يسمعها اليمنيون أثناء مضغ القات، متذكرًا ما كان يرد فيها من كلام غزلي وشاعري مرهف في وصف المحبوبة ذات الخصر النحيل والعيون الناعسة، فيقول:
والأغاني من كلام الآنسي
بخيال شاعري خامسي
يصف القد بغصن مائسِ
من فتاة ذات طرف ناعسِ
يثنى بين ورد وأقاح
ما على الصب إذا ما قال آح
ويعود مرة أخرى ليتذكر بيوت الله التي كانت عامرة بالمصلين وحلقات العلم في الصباح والمساء، ويقول عنها:
وبيوت الله كانت عامرة
برجال يعمرون الآخرة
حلقات العلم فيها زاخرة
بوجوه نيرات زاهرة
في اجتماعات مساء وصباح
ما على الصب إذا ما قال آح
- شعر عن الوطن العربي
ولم ينسَ ذكر مسجد العسقلاني في هذه القصيدة، ومستنكرًا ما آل إليه الوضع، وكأنه يعبر عن حالنا اليوم، حيث الكتب تغمد، ويشهر كل طرف السلاح ضد الطرف الآخر، وكأننا في حرب البسوس، فقال:
يا رجالا في رحاب العيدروس
أين ما في العسقلاني من دروس
و"أبان" حيث ترتاح النفوس
أفنحن اليوم في حرب البسوس
تغمد الكتب ويسل السلاح
ما على الصب إذا ما قال آح
ويبدو الوصف التالي للحال في ذلك الوقت معبرًا بصورة أكثر عن واقع حالنا اليوم، حيث يختفي الأحرار وأهل العلم من أعين الناس في المدن والأسواق خوفًا من أن يقتلهم الجبناء والجهلة، وذلك بسبب فساد الوضع، والحال الذي وصل إليه الوطن، فقال في وصف ذلك:
ثم نحن اليوم في هذا البلد
لا يرى في السوق منا من أحد
خشية أن يقتل الثعل الأسد
هكذا الوضع إذا الوضع فسد
تختفي العمة من تحت الوشاح
ما على الصب إذا ما قال آح
وبما أن الحال قد صار إلى ما صار إليه، فقد اختفت الأغاني وأصوات الأطفال وهم يلهون أمام البيوت وفي أرصفة الشوارع، وظهر بدلًا من ذلك أصوات الرصاص والرعب الذي أجبر الناس على البقاء داخل منازلهم، وبقي المجرمون في الشوارع يزمجرون بأصوات تشبه أصوات الجن في الضياح الخالية من السكان، وقد عبر عن ذلك البيحاني بقوله:
بعد أصوات الملاهي والغناء
صرت لا تسمع شيئا من هنا
غير صوت الرعب من خلف البناء
بندق أو مدفع يفزعنا
وصياح الجن من فوق الضياح
ما على الصب إذا ما قال آح
يقدم بعد ذلك البيحاني تعبيرًا دقيقًا ليصف حقيقة الوضع المؤلم والخوف المسيطر على الجميع، وخاصة عندما يقبل الليل بظلامه الدامس، لدرجة أن جبل شمسان بشموخه وعلوه يكاد يذوب من الخوف، فيقول:
وإذا الشمس تدانت للغروب
كاد شمسان من الخوف يذوب
ربنا عجل بتفريج الكروب
هذه الأفواه تدعو والقلوب
تطلب العفو وترجوك السماح
ما على الصب إذا ما قال آح
ورغم كل ما حل بالوطن من خراب ودمار ورعب، إلا أن البيحاني ظل مشتاًقا للعودة، وهو يتذكر الأيام الخوالي، ورغم تفاؤله بالعودة إلى مسقط رأسه بعدن، لكن ذلك لم يُكتب له، حيث مات ودفن خارج عدن، وهنا سأعود للقصيدة السابقة، لأستشهد بأبيات منها على تفاؤله بالعودة، حيث قال:
وهل ستعود أيام تخلَّت؟
ويا لله أيام خوالي
نعم ستعود والدنيا بخيرٍ
وأمرك نافذ يا ذا الجلالِ
وماذا لو لم تعُد هذه الأيام؟ وماذا لو ظل البيحاني في كل ما تبقى من عمره بعيدًا عن الوطن والأهل والأحباب؟ ما الذي يا ترى سيفعله وهو يكابد مرارة الشوق لطعم العيش الحالي في الوطن؟ يجيب البيحاني ويقول:
وأنتظر الرجوع إلى بلادي
وطعمُ العيش في الأوطان حالي
وإلا فالوداع وسوف أدعو
لها بجوارحي ولسان حالي
وهكذا نكون قد قضينا رحلة ممتعة ومؤلمة في نفس الوقت مع شعر العلامة البيحاني وشوقه إلى مسقط رأسه ومسجده ومعهده، وحنينه إلى الأهل والأحباب، وذكرياته الجميلة التي لم ينساها. شعر عن الوطن العربي